بعيدا عن المزايدات ودغدغة مشاعر القومية العربية، وتغليف القضايا السياسية والتاريخية بغلاف من الدين لكسب تعاطف شعبي ، فان التطورات الأخيرة التي شهدتها الاراضى الفلسطينية تؤكد ان الطرفين يسعيان الى تطبيق خيار شمون ، وهو هد المعبد على من فيه.
في البداية تصورت حركة المقاومة الإسلامية "حماس " انها يمكنها ان تغير قواعد اللعبة من خلال هجومها غير المسبوق على مستوطنات غلاف قطاع غزة، وعزز هذا التصور حجم المفاجأة التي اصابت إسرائيل بمقتل في كبريائها وتركتها عارية امام الداخل الإسرائيلي الذى كان يعانى في الأساس من انقسام بسبب التعديلات القانونية التي اقرها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو.
والى حد ما فان حتى اللحظات الأولى كانت حمس تمتلك زمام المبادرة، وتاكد ذلك ساعات من بدء بث الفديوهات التي كشفت حجم الخيبة في إمكانيات الجيش الإسرائيلي، اضف الى ذلك اعداد الاسرى من جنود الاحتلال والمدنيين الذى سقطوا في ايد رجال الحركة. الى هنا كان التصور صحيحا بالنسبة لحماس حيث ان هذا العدد من الاسري كان من غير المتوقع ان يسقط بهذه السهولة، واذا كان الأسير الجندى جلعاد شاليط الذى تم مبادلته قبل سنوات بأكثر من 200 سجين فلسطيني فان هذا العدد الذى زاد على المائة كفيل بان يقلب موازين القوى لصالح حماس ويجعلها تفرض شروطها للصلح وربما للاستسلام، لتحقق أخيرا ما فشل الاخرين في إنجازه.
لكن كالعادة فان من لم يقرأ التاريخ مكتوب عليه ان يعيش تجاربه اكثر من مره، واتذكر هنا ما حدث مع بداية حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل، حين رأت القيادة السياسية بضرورة تسخين الجبهة الشرقية عسكريا حتى لا يعتقد الاحتلال ان هذا هو نهاية المطاف ، ووقتها اعتقدت القاهرة ان الرد الإسرائيلي سيكون مقصورا على نفس الجبهة وبنفس القدر من القوة، ولكن فوجئنا ان قيادة الاحتلال كان لها مبادرتها الخاص ولم تلتزم بالسياق التي تصورته القاهرة، وعانت مصر في تلك الفترة بما سمي بغارات في العمق المصرى، تسبب في تدمير مصانع أبو زعبل ومجمعات الحديد والصلب في نجع حمادى وغيرها ، مما جعل القيادة المصرية في طلب معدات دفاعية من الاتحاد السوفيتي ضد الطيران الحربي..وتلك قصة أخرى.
هذا بالضبط ما شاهدناه الان، فحماس كانت تتوقع ان يكون الرد العسكرى الإسرائيلي مقيدا بعدد اسراه غير المسبوق الموجودين في القطاع، ولكن تبين ان تل ابيب لم تلتزم أيضا بالسياق الذى تخيلته حماس، واكتشف الجميع ان تمتلك خيارات أخرى منها تطبيق بروتوكول هنيبعل الذى ينص على قتل الخاطف والمخطوف، على أساس ان الجندى المقتول افضل من الجندى الأسير، وهنا سقطت حماس فيما لم تكن تتوقعه وأصبحت ورقة الاسري عبء بدلا من ان تكون أداة ضغط لانه في هذه الحالة ستكون مسؤلة مباشرة على حياته تنفيذا للقواتين الدولية.
سقطه اخرى لحماس اوقعها فى المحظور ودعاها زهو الانتصار اللحظي الى تجاوز ماهو مقبول الى ما هو مرفوض ، تسببت سوء اختيار الفيديوهات التي نشرتها الحركة للتعبير عن هذا تلك اللحظة في كشف كل سوءات تعرض لها الإسرائيليين سواء من العسكريين او المدنيين، بما في ذلك من تعرية نساء مجندات او سحل جثث وغيره.. وهى نفسها الفيديوهات والصور التي استخدمتها إسرائيل في الأمم المتحدة لجلب المزيد من التعاطف الدولى.
انقلبت الصورة اذن، واذا كان استعادة الحق حرفة، فان حماقة التصور في التعامل مع مقتضيات الواقع كفيلة بتحويل هذا الحق الى باطل.
الشاهد ، الان هو وجود إصرار إسرائيلي مدعوم أوروبيا وقبله أمريكا بتغيير خريطة الحدود بين القطاع وإسرائيل، ولن نتطرق هنا الى ما يقال حول عمليات الترانسفير او الترحيل لسكان غزة الى سيناء لانه ابعد من الواقع ، ولكن بقراءة لمظاهر استعراض القوة الذي أظهرته الولايات المتحدة عبر تحريك "جيرالد فورد" أحدث وأكبر وأفضل حاملات طائراتها ومعها أربع مدمرات وطراد وقطع بحرية أخرى لمساندة إسرائيل، فأن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لا تريد على ما يبدو انفلات الرد الإسرائيلي على هجوم الفصائل المسلحة الفلسطينية ليتحول إلى حرب إقليمية واسعة، وحصر القتال المتوقع بين إسرائيل والفصائل المسلحة الفلسطينية في غزة وضمان عدم امتداده إلى مناطق أخرى، ولهذا كانت مظاهر الاستعراض العسكرية الأميركية للقوة بمثابة أداة ردع لـ "حزب الله" الذي بدأ في قصف مزارع شبعا كنوع من التهديد باستعداده الدخول في الصراع ومساندة حركة "حماس"، بينما يمتلك 150 ألف صاروخ يمكنه إطلاقها على المدن الرئيسة في إسرائيل، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حرب شاملة ليس فقط في غزة، بل في لبنان أيضاً حيث يتم جرّ الجميع إلى هذه الحرب.
فتواجد الولايات المتحدة سفنها الحربية إلى شرق المتوسط، ليس فقط لتحسين قدرات المراقبة والتنصت واعتراض الاتصالات أو منع "حماس" من التزود بمزيد من السلاح، وإنما أيضاً ترغب أيضا في كبح جماح إسرائيل من ان تسقط هي الأخرى وتتوسع عسكريا خاصة في الجبهة الشمالية مستغلة حالة التعاطف الدولى، خاصة ان تغيير الحدود يستلزم تفريغ شريط حدودى بين غزة ومستوطنات غلاف غزة، بعد القضاء على قوة حماس تماما.